فمن
المواضع التي لاحظنا فيها أن تغير نظام الفاصلة والقافية يعني شيئا خاصا
ما جاء في سورة مريم . فالسورة تبدأ بقصة زكريا ويحيي ؛ وتليها قصة مريم
وعيسى , وتسير الفاصلة والقافية هكذا : " ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً . قَالَ رَبِّ
إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ
أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً " ... إلخ . " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً .
فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا
فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً . قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً " .... إلخ .
إلى أن تنتهي القصتان على روي واحد . وفجأة يتغير هذا النسق بعد آخر فقرة في قصة عيسى على النحو التالي : " قَالَ
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً{30}
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً{31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً{32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ
وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً{33} ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ{34} مَا كَانَ
لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{36} فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ
يَوْمٍ عَظِيمٍ " .
وهكذا
يتغير نظام الفاصلة فتطول , ويتغير نظام القافية فتصبح بحرف النون أو بحرف
الميم وقبلهما مد طويل . وكأنما هو في هذه الآيات الأخيرة يصدر حكما بعد
نهاية القصة , مستمدا منها , ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا موسيقيا غير أسلوب
الاستعراض . وتقتضي إيقاعا قويا رصينا , بدل إيقاع القصة الرضي المسترسل ,
وكأنما لهذا السبب كان التغيير .
ونحن
نستأنس في هذا الاستنباط بملاحظة أخرى , ذلك أنه بمجرد الانتهاء من إصدار
هذا الحكم وإلقاء ذلك القرار , عاد إلى النظام الأول في القافية والفاصلة
, لأنه عاد إلى قصص جديد , على النحو التالي : " فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ
يَوْمٍ عَظِيمٍ . أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ
الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ
الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ . إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا
وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ . وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ
كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً .
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً . يَا
أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ
لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً " ... إلخ
وفي سورة " النبأ" بدأت السورة بقافية النون والميم : " عَمَّ يَتَسَاءلُونَ . عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . كَلَّا سَيَعْلَمُونَ " .
فلما انتهى من هذا التقرير , وبدأ نسقا معنويا جديدا – نسق الجدل بدل التقرير – تغير النظام هكذا : " ثُمَّ
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ{5} أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً{6}
وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً{7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً{8} وَجَعَلْنَا
نَوْمَكُمْ سُبَاتاً{9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً{10} وَجَعَلْنَا
النَّهَارَ مَعَاشاً... " .
وفي
" آل عمران " سارت السورة على القافية الغالبة حتى قرب النهاية , فلما بدأ
دعاء من طائفة من المؤمنين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , تغيرت
الفاصلة هكذا : " ... رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ " إلخ .
-----------------------------------------------------
التصوير الفني في القران-(سيد قطب
)
المواضع التي لاحظنا فيها أن تغير نظام الفاصلة والقافية يعني شيئا خاصا
ما جاء في سورة مريم . فالسورة تبدأ بقصة زكريا ويحيي ؛ وتليها قصة مريم
وعيسى , وتسير الفاصلة والقافية هكذا : " ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً . قَالَ رَبِّ
إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ
أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً " ... إلخ . " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً .
فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا
فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً . قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً " .... إلخ .
إلى أن تنتهي القصتان على روي واحد . وفجأة يتغير هذا النسق بعد آخر فقرة في قصة عيسى على النحو التالي : " قَالَ
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً{30}
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً{31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً{32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ
وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً{33} ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ{34} مَا كَانَ
لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{36} فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ
يَوْمٍ عَظِيمٍ " .
وهكذا
يتغير نظام الفاصلة فتطول , ويتغير نظام القافية فتصبح بحرف النون أو بحرف
الميم وقبلهما مد طويل . وكأنما هو في هذه الآيات الأخيرة يصدر حكما بعد
نهاية القصة , مستمدا منها , ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا موسيقيا غير أسلوب
الاستعراض . وتقتضي إيقاعا قويا رصينا , بدل إيقاع القصة الرضي المسترسل ,
وكأنما لهذا السبب كان التغيير .
ونحن
نستأنس في هذا الاستنباط بملاحظة أخرى , ذلك أنه بمجرد الانتهاء من إصدار
هذا الحكم وإلقاء ذلك القرار , عاد إلى النظام الأول في القافية والفاصلة
, لأنه عاد إلى قصص جديد , على النحو التالي : " فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ
يَوْمٍ عَظِيمٍ . أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ
الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ
الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ . إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا
وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ . وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ
كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً .
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً . يَا
أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ
لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً " ... إلخ
وفي سورة " النبأ" بدأت السورة بقافية النون والميم : " عَمَّ يَتَسَاءلُونَ . عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . كَلَّا سَيَعْلَمُونَ " .
فلما انتهى من هذا التقرير , وبدأ نسقا معنويا جديدا – نسق الجدل بدل التقرير – تغير النظام هكذا : " ثُمَّ
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ{5} أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً{6}
وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً{7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً{8} وَجَعَلْنَا
نَوْمَكُمْ سُبَاتاً{9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً{10} وَجَعَلْنَا
النَّهَارَ مَعَاشاً... " .
وفي
" آل عمران " سارت السورة على القافية الغالبة حتى قرب النهاية , فلما بدأ
دعاء من طائفة من المؤمنين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , تغيرت
الفاصلة هكذا : " ... رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ " إلخ .
-----------------------------------------------------
التصوير الفني في القران-(سيد قطب
)